موضوع: الشيماء : بنت البادية الأحد 19 ديسمبر - 15:44:02
الشيماء : بنت البادية
الذكرى بعيدة غائرة كبئر عميقة تتصحر.. منذ الطفولة الغضة الطرية، لابد أنه كان طفلاً،
قد يعجزنا إجلاله في شبابه وكهولته عن تصوره طفلاً، لكنه كان قبل خمسة وخمسين عاماً طفلاً تشع عيناه بالبراءة ويبشر وجهه بمستقبل باهر..
في هذه البادية كانت له أم ترضعه وأخ يرضع معه، وأخت تكبره بخمسة أو ستة أعوام.. لابد أنها تحبه، ولاشك
أنها تتذكره أكثر من وعيه بها، لقد فارق مضاربهم وهو في الثانية بينما كانت هي تخطو في صباها نحو الشباب..
كانت تخصه بعاطفة خاصة، فلقد رأت من بركته ما أعيا عقلها الصغير عن استيعابه، وملك قلبها كله، فتغني له:
يا ربنا أبق لنا محمدا حتى أراه يافعا وأمردا ثم أراه سيدا مسودا واكبت أعاديه معا والحسدا وأعطه عزا يدوم أبدا
أربعون عاماً مضت كادت فيها ينابيع الذكرى تجف، وتطمس معالمها الأحداث الحية والصروف المتتابعة، لكنها ما كادت تسمع عنه حتى وجدت روحها تبتسم في أعماقها، وقلبها ينتفض، ونفسها تشرق،
إن ما تسمعه يؤكد فراسة الطفولة الصادقة التي لا تعرف الزيف، إنه لخليق أن يكون ذا شأن وأي شأن؟
لقد كانت ترقبه صغيراً يحبو، وترقب البركة تسري من حوله فتحيل جدب حياتهم رغداً، وصفار ربوعهم خضراً، وعجاف ماعزتهم بئراً نضاحة بالخير، وتراه يترعرع أمامها يوماً بعد يوم، يكبر قليلاً فتداعبه وتلاطفه وتناغيه، وتحمله، وتتوركه، فيعضها!!
تضع كفها على ظهرها تتحسس موضع العضة غضاً كأنها كانت بالأمس، لم تفارق البسمة شفتيها وهي تتذكر.. بسمة مشرقة ما لبثت أن تحولت إلى غصة في الصدر وشهقة أو آهة مكتومة أو مخنوقة، تضرب صدرها بكفها: أمثل هذا الفتى يُكذّب؟
أعميان هؤلاء المكذبون؟ ألم يروا بأعينهم ينابيع الخير تجري معه أينما حل أو ارتحل!
تمضي السنون وهي تتنسم أخباره من هنا وهناك..
رغم الشوق ورغم الحنين، ورغم اليقين الفطري بصدقه لم تذهب إليه تبايعه وتعلن تصديقها له ومتابعته! لعلها المشاغل، أو عوائق تعيقها عن اللحاق به، لعله التثاقل إلى الأرض، ترتبط بباديتها.ارتباطها بالبادية وثيق لا ينفصم..
تنعكس الأخبار على صفحة وجهها الندي، تارة تتقلص عضلاته حتى تكاد تتشنج، وتارة تذرف الدمع من مقلتيها رثاء وشفقة، وأخرى تتسع شفتاها بالابتسام، ورابعة تصك صدرها في لهفة، وخامسة تطفر من عينيها دموع بطعم الفرح..
مازلت الأيام بينه وبين قريش دول، وإن الكفة لتميل إليه وإلى أصحابه رويداً رويداً، كفتا الميزان لم تعودا تتأرجحان بل كفته تثقل كل يوم..
سينتصر.. حتماً سينتصر، هي تدرك ذلك.. تدركه منذ كانت ابنة خمس سنين، كانت تعرف منذ وطئت قدم أمها تحمله إلى ربوع بني سعد أنه سيكون ذا شأن وأي شأن، وإنه لمنتصر لا محالة..
أخبار الفتح تسري في قبائل العرب، لقد سلمت قريش أو انهزمت، فمن يجرؤ على الوقوف له بعدها؟ من يقف أمامه وفي كفته قريش بعدما كانت في كفة الميزان الأخرى ومع ذاك انتصر!
"ويحي" رددتها حذافة بنت الحارث السعدية "الشيماء" وهي ترى قومها يستعدون للقائه.. قالت وفي وجهها كدر، وفي نفسهما هم وغم: أبعد فتح مكة يثبت له أحد؟
قالوا: سنخرج له عن بكرة أبينا، هذه هوازن وثقيف وبكر بن سعد قد جمعوا له..
أأحزاب أخرى بعدما صرف ربه عنه الأحزاب؟
قالت لجارتها: إن قومنا لمغرورون مفتونون، وليس اليوم كالأمس!
جاءت الطامّة، وقع عليها الخبر وقوع الصاعقة، يأمرونها أن تخرج إليه، لا خروج الأخت إلى أخيها الحبيب الذي افتقدته نحو نصف قرن، ولكن خروج القتال والمواجهة..
هل يمكن أن تتصور نفسها وقومها في جيش يواجه محمداً والذين معه؟
لم تذق طعم النوم منذ نزل عليها الخبر، غير أن خيطاً من نور ظل ينطلق من قلبها لا تعرف مصدره، إن محمداً لمنصور، وإنا لسبايا عنده، ويومئذ يلتئم الشمل..
وتمادت هوازن في غرورها، والشيماء لا يداخلها شك في المصير المحتوم، كأنها ترسم صورته على رمال (حُنين)..
ودارت رحى الحرب وتأرجحت المعركة في بادئ الأمر حتى ظن القوم أن لهم الغلبة، فإذا بهم يولون الأدبار فراراً بجلودهم تاركين أحسابهم وراءهم، والصيحة الكبرى تتردد: انج بنفسك..
ووقعت النساء والحرائر في الأسر سبايا، فلطمن الخدود وشققن الصدور ونحبن وولولن..
إلا واحدة، كان الخطب يمر على قلبها برداً وسلاماً، كانت ملامح الصورة تتجمع لديها كما رسمتها ذات يوم وقت الشفق..
لما علمت بعودته من حصار الطائف طلبت من حراس معسكر الجعرانة مقابلته، فأذنوا لها..
كانت تخطر في خطوها نحوه وفي صدرها شوق وفي نفسها حنين وفي روحها لهفة، وفي قلبها حب، كلما اقتربت بهر عينيها نوره، هو هو ذلك النور الذي عرفته قبل نصف قرن.
دموعها تنساب على خديها حلوة المذاق.. الذكرى المحفورة على جدار القلب تضيء لها الطريق، اختلطت الذكريات بالحاضر،
تراه وهي تتوركه وهو يعضها، تشعر بوخز أسنانه فتضع كفها بحركة لا إرادية على مكان العضة من ظهرها، لكم تكررت هذه الحركة العفوية من كفها كلما ظللتها الذكرى..
اقتربت حتى مثلت بين يديه، تنظر حولها في تأمل.. هو اليوم منتصر، وأي نصر؟
إن الغنائم التي بين يديه واد بين جبلين، والسبايا يملأن المعسكر، فأين رايات النصر! وأين الاحتفالات الصاخبة! وأين الجواري راقصات يصدحن بالغناء؟ وأين الكؤوس المترعة؟
تتلفت حولها لا ترى لشيء من هذا أثراً، إنه نصر بلا خمر، وسهر ليس للهو ولكن لصلاة.. تبتسم لنفسها ودموعها تنهمر!
إنه هو بعبقريته وتميزه، حيته وهي تخفض نظرها، ثم قالت: أنا أختك يا رسول الله
أنا حذافة بنت الحارث.. أنا الشيماء يا حبيبي يا رسول الله.. ومَا علامة ذلك؟
تلك العضة التي بظهري عضضتنيها وأنا متوركتك..
تجمعت خيوط الذكريات كسحب في كبد السماء وانهمرت كالمزن، وتهلل الوجه الوضاء الكريم وانبسطت أساريره فكان يبرق مثل الجمان، وافترش لها رداءه بجواره: هلم إلي يا شماء.. هلم اجلسي هنا بجواري على ردائي..
يا حبيبي يا رسول الله.
في هذه اللحظة النورانية التي يلتقي فيها الأخ بأخته، بعد طول فراق، بعد حياة في ظلال اليتم والوحدة تعلن إسلامها..
ويخيرها أخوها النبي صلى الله عليه وسلم بين الصحبة، وبين الرجوع إلى قومها.. فتختار الشيماء بنت الحارث السعدية أخت النبي من الرضاعة ما حملها به من زاد وراحلة وترحل عائدة إلى ربوعها إلى البادية!
إنها بنت البادية، لا حياة لها في غير ربوعها.. (1).
ابوخالد
عدد المساهمات : 1124 تاريخ التسجيل : 11/12/2010
موضوع: تحياتي الأحد 19 ديسمبر - 19:15:50
مشكووووووووره على مشاركتك الطيبه
بنت البادية
عدد المساهمات : 157 تاريخ التسجيل : 19/12/2010
موضوع: رد: الشيماء : بنت البادية الأحد 19 ديسمبر - 20:39:04
بارك الله فيك على ردك الطيب ودمت بحفظ الرحمن
أصيلة النقب
عدد المساهمات : 30 تاريخ التسجيل : 20/12/2010
موضوع: رد: الشيماء : بنت البادية الثلاثاء 21 ديسمبر - 20:41:09
menwer atawneh
عدد المساهمات : 1789 تاريخ التسجيل : 20/12/2010
موضوع: رد: الشيماء : بنت البادية الجمعة 24 ديسمبر - 4:44:18
جـــــــــــــــــــزاك الله خيرا موضـوع شيق وافضل الصلاة والسلام على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
ابو احمد
عدد المساهمات : 145 تاريخ التسجيل : 11/12/2010
موضوع: رد: الشيماء : بنت البادية الجمعة 24 ديسمبر - 15:33:33
دمتم ودامت مساهماتكم
الضغيم
عدد المساهمات : 574 تاريخ التسجيل : 20/05/2011
موضوع: رد الشيماء الثلاثاء 9 أغسطس - 5:18:35
جزاك الله خيرا
بارك الله فيك
****
عبد الواحد العطاونه
عدد المساهمات : 215 تاريخ التسجيل : 03/08/2011
موضوع: رد: الشيماء : بنت البادية الثلاثاء 9 أغسطس - 5:37:25
سلطت الضوء على جانب لا ينتبه اليه الكثير في السيرة الله يعطيك العافية